المذكّرة الأولى: |
إنفجري يا خارطة العالم المنهار |
انفسي التضاريس الملكيّة، وحطّمي كراسي الكارتون المستورد |
افتحي أبواب المحتشدات والسجون |
دعي الجموع الجائعة تشبع |
ودعي الفقراء يملأون جيوبهم شمساً |
ابعدي العملاء عن مسيرة المتمردين |
فأقدام الأقزام لم تخلق لتواكب الثوّار |
طويلة ليالي هذه المواسم |
مظلمة ساعات هذه الأيام |
ونحن لسنا بالأموات ولسنا بالأحياء |
الموت والحياة تآمر علينا |
تحركي واجعلينا نموت أو نحي بزلزال |
انسفي الحدود والجمارك، ولتحرق تأشيرات الدخول والخروج |
فنحن حولك |
نطوّقك باسم الذين جاؤوا من عندك لاجئين |
وباسم الذين يعودون إليك شهداء أو فدائيين |
باسم رفيق نسفت روحه داخل سيارة |
باسم رفيق وصله الموت في هدية |
وآخر في غرفة نومه ببيروت |
من أجل الهمشري وبن بركة.. وغسان.. وكمال ناصر. |
نحن نلتف حولك |
ننبت على صدرك مع كروم الخليل وتمور العراق وقطن مصر.. |
والرفض معنا باق |
بقاء نهر بردى وجبال الاوراس وصحراء سيناء.. وخليجنا. |
نحن هنا |
الكثير منّا موزّع بين أقبية الموت المنسية والمحاكم العسكريّة |
أبطالنا لا يصلون السجون لأنهم يموتون في غرف التعذيب |
ولكن ثورتنا لن تهدأ |
ونهر الأردن لن يستريح |
حين أصبحت رائحة الأرض عطرنا المفضل |
أصبح لون التراب أجمل من لون العيون |
وأصبحت كل الطرق تؤدي إليك |
*** |
المذكرة الثانية: |
حين أصبحتِ شهية كالحزن |
كالفرح المؤقت |
كالجنون |
صرت أخشى أن أحرق خريطتك في لحظة انهيار |
لم يكن (نيرون) مجنوناً |
كان فقط يحب (روما) بطريقة جديدة لم يتعوّدها العشاق |
المتقاعدون |
اتّهم بالجنون.. لأنه أحرق حبيبته |
من سنين أنام وأنا أحلم أن أستيقظ ذات يوم على ألسنة اللهيب |
أقرأ كل صحفك بكل اللغات |
أقرأ عناوينك الحمراء.. وعناوينك السوداء |
ابحث عنكِ في صفحة الأموات وفي صفحة الأحياء |
فلا أجدك هنا، ولا هناك |
*** |
ذات مرة لقيتك وكنت في (برلين) .. سائحة حزينة |
كان رفيق يضع على صدري صورة (اميكال كابرال) |
وكنتِ تمرين أمامي وسط استعراض للشبيبة العالمية في |
ذلك الملعب الدولي |
حين وقفت لتحيّتك كانت شفقتي عليك أكبر من شوقي إليك. |
ولكنني ألقيت لك بآخر زهرة وهتفت مع الرفاق |
(بالروح.. بالدم.. حنكمل المشوار) |
كانت رفيقتي من (بورتوريكو) تحدثني عن المطاردات |
البوليسية، وتكشف للطبيب عن آثار الضرب على جسدها.. |
وكنت أرحل نحو ملامحك المتعبة |
أغمض عيون موتاك الذين لا تزال عيونهم مفتوحة في غرف |
التعذيب، وأجمع رؤوس رفاقي من ساحات الإعدام |
كان البعض يتاجر بلحية (شي غيفارا) وتسريحة (انجلا) |
وحطة (ليلى خالد) |
كنت الثورة لقباً يشترى على رصيف |
كنت اللوحة التي تباع في المزاد العلني |
ولكنك أرخص من سيجار (شرشل) وحلي (ماري انطوانيت) |
في ذلك المساء كتبت لك خطاباً من أحد مستشفيات برلين |
لا أذكر ما قلت لك فيه |
فقد أفقدني الحزن ذاكرتي |
*** |
المذكّرة الثالثة: |
أحاول أن أنسى أن لي وطناً |
أتوزّع في شوارع العالم وفنادقه |
أحاول أن أضيع مكانه على الخارطة |
ولكننا في موسم الترحال |
تهاجر الطيور نحو السماء الأولى |
وتعود الأسماء إلى المياه الأم |
وترجع الأوراق إلى الشجر |
ويتبخر الماء عائداً إلى السماء |
أحاول أن أنساك، ولكننا في موسم الترحال |
وعندما أرى رحلة الكائنات نحو حضنها الأول |
أشعر بالحنين إليك، فأنت حضني الوحيد |
الحضن الذي وهبني الحياة ولم يحضني بعدها أبداً |
أحاول أن أعود نحوك مع مواكب الكائنات المهاجرة |
ولكنني أقع قبل أن أصل إليك |
آلاف الحدود بيننا.. وآلاف الجمارك |
وأنا أسافر نحوك وملامحك بين أشيائي الصغيرة |
أخبئها كما نخبأ البضاعة المحظورة |
أخشى أن يكتشفها أحدهم فيحتجزني ولا أكون مع العائدين |
ولكنك شيء لا يخبأ |
كنت حاملاً بك.. |
وكان حزني قد جاوز الشهر التاسع |
لذلك حجزت في كل جمارك العالم، وقضيت عمري في |
محطات القطار.. |
وهناك، |
يحدث أن أغضب واعرض ما تبقى عندي من ملامحك للبيع |
أعرضها على السوّاح عسى أحدهم يخلّصني من حملك |
لكنهم لا يتوقفون أبداً جميعهم مسرعون نحو الحضن الأول |
بالأمس عرضت على واحد من (الهيبيين) أن يأخذك هدية |
مني.. |
سألني إن كنت زهرة.. أو منديلاً يربط حول الرأس |
قلت له إنك معطفي الوحيد |
فقال لي: نحن قلما نشعر بالبرد |
وكانت المدن الجليدية تزحف نحوي، وكنت لا زلت في يدي |
فافترشتك، |
ونمت في محطة القطار |
*** |
المذكرة الرابعة: |
أكره أن ألتقي بك في نشرة الأخبار |
أصبحت أكره أن أسمعك تنتحرين على الأمواج الطويلة |
والقصيرة |
وجهك المشوّه لا يخيفني |
أنا أعرف الكثير عنك |
أعرف حتى أعضاءك المشلولة وأعضاءك المستعارة |
أعرف كيف تحاول عناوين الجرائد اليومية أن تتمدد على |
جسدك، لتخفي عيوبك، وتخدع الطيبين ليذهبوا للموت تحت رايتك |
رأيتك عارية |
لم تكوني في طريقك إلى الحمام |
ولا كنت متّجهة نحو البحر |
(النظافة من الايمان) أصبحت مع الأيام كلاماً فارغاً |
عندما نجح القذرون في خداع البسطاء |
والسباحة لم تكن يوم هوايتك |
كنت أتصور حتى ذلك اليوم أن هوايتك الوحيدة جمع الآثار، |
وتبادل الآراء حول كتب الأزمان الغابرة. |
لذلك أهديتك مكتبتي التاريخية، وحفظت أيام العرب ومعلقاتهم |
وجئت أقصّها على (ابي الهول) و (قاسيون) |
لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة تتعرين |
لم تقفي في ديكور مثير |
ولا استنجدت بالأضواء الخافتة |
ولا نزعتِ أثوابك الداخلية قطعة قطعة، كما تفعل راقصات |
(الستريبيتيز). |
كل شيء عندك وقع فجأة.. وخارج علب الليل |
تعرّيت فجأة |
ورأيتك فجأة |
وتحدثت كل الجرائد بعدها أن عمان تدفن خمسة وعشرين ألف فلسطيني |
خمسة وعشرون ألفا تعوّدنا بعد ذلك أن نذكرهم بالجملة. |
غريب أن يتعوّد الانسان بسرعة على الأرقام الكبيرة، وينسى |
أن كل رقم هو نهاية حياة |
حاولي يا عمّان أن تتصوري عيون هؤلاء الخمسة |
والعشرين ألفاً وهم يموتون |
في عيونهم فقط تقرأين مرارة الأرقام |
كانوا يحلمون ببيتوتهم خلف الضفة، حين أغرقتهم.. |
وقتها فقط اكتشفت هوايتك الأخيرة |
وأدكت سر تجوالك عارية.. ونحن في أيلول.. |