الإنسان يتعلم من الحيوان:
مقتطفات من كتاب ( قل أنظروا )للإمام ابن قيم الجوزية جمع وترتيب صالح أحمد الشامى
كثير من العقلاء يتعلم من الحيوان البهيم أمورا تنفعه فى معاشه وأخلاقه وصناعته
وحربه وحزمه وصبره . وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى :
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا
( الفرقان /44 ) . قال أبو جعفر الباقر : والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام ،
حتى جعلهم أضل سبيلا منها .
قال ابن الأعرابى : قيل لشيخ من قريش : من علمك هذا كله ؟ قال علمنى الذى علم
الحمامة تقليب بيضها حتى تعطى الوجهين جميعا نصيبهما من حضانتها .
وقيل لآخر من علمك اللجاج ( الإلحاح ) فى الحاجة والصبر عليها حتى تظفر بها ؟
قال : من علم الخنفساء إذا صعدت فى الحائط تسقط ، ثم تصعد ثم تسقط مرارا عديدة ، حتى تستمر صاعدة .
وقيل لآخر من علمك البكور فى حوائجك أول النهار لا تخل به ؟ قال : من علم
الطير تغدو كل بكرة فى طلب أقواتها على قربها وبعدها ، لا تسأم ذلك ، ولا
تخاف ما يعرض لها فى الجو والأرض .
وقيل لآخر : من علمك السكون والتحفظ والتماوت ، حتى تظفر بأربك فإذا
ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته ؟ فقال : الذى علم السنور أن ترصد
جحر الفأرة ، فلا تتحرك كأنها ميتة ، حتى إذا برزت لها الفأرة ، وثبت عليها كالأسد .
وقيل لآخر من علمك حسن الإيثار والسماحة والبذل ؟ قال من علم الديك يصادف
الحبة فى الأرض وهو محتاج إليها ، فلا يأكلها بل يستدعى الدجاج ويطلبهن طلبا
حثيثا ، حتى تجيء الواحدة منهن فتلتقطها وهو مسرور بذلك وإذا وضع له الحب
الكثير فرقه ههنا وههنا ، وإن لم يكن هناك دجاج ، لأن طبعه قد ألف البذل والجود.
وقيل لآخر من علمك هذا التحيل فى طلب الرزق ووجوه تحصيله ؟ قال : من علم
الثعلب تلك الحيل التى يعجز العقلاء عن علمها وعملها .
ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها ألا تأكل إلا من فريستها ، وإذا مر بفريسة غيره لم
يدن منها ولو جهده الجوع .ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنى وقت ولادتها ، أن تأتى إلى الماء فتلد فيه لأنها
– دون سائر الحيوانات – لا تلد إلا قائمة ، وهى عالية ، فتخاف أن تسقطه
على الأرض فيتصدع ، فتأتى إلى ماء وسط فتضعه فيه يكون كالفراش اللين .
ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبا بين عينيه ، فينام بإحديهما حتى إذا تعبت الأخرى نام بها وفتح النائمة .
ومن علم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هى والأب فى بناء العش ، وأن يقيما له
حروفا تشبه الحائط ، ثم يسخناه ، ثم يقلبان البيض فى الأيام، ومن قسم بينهما
الحضانة والكد ، فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى ، وأكثر ساعات جلب القوت على الأب .وإذا خرج الفرخ علما ضيق حويصلته عن الطعام فنفخا فيه حتى تتسع حويصلته
ثم يزقانه اللعاب أو شيئا قبل الطعام ثم يعلمان احتياج الحويصلة إلى دباغ فيزقانه
شيئ مثل الملح والتراب من أصل الحيطان تدبغ به الحويصلة فإذا علما أن الفرخ
يستطيع أن يلتقط وحده توقفا عن إطعامه بالزق فإذا تكاملت قوته وسألهما ضرباه.
ومن علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث فلا يبقى عصفور بجوارها حتى
يجيء فيطيرون حول الفرخ و يحركونه ويحدثون له قوة وهمة وحركة حتى يطير معهم .ومن علم الدب إذا أصابه كلم أن يأتى إلى نبت قد عرفه ، وجهله صاحب الحشائش فيتداوى به فيبرأ.
ومن علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتص أثره ويطلب ، عفا على أثر مشيته بذنبه
، ومن علمه أن يأتى إلى شبله فى اليوم الثالث من وضعه ، فينفخ فى منخريه لأن
اللبوة تضعه خورا كالميت ، فلا تزال تحرسه حتى يأتى أبوه فيفعل به ذلك .
ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه ، حتى يذهب ذلك السمن ثم يظهر .
ومن علم الأيل ( حيوان من ذوات الظلف، للذكور منه قرون متشعبة ) إذا سقط
قرنه أن يتوارى ، لأن سلاحه قد ذهب فيسمن لذلك ، فإذا كمل نبات قرنه تعرض
للشمس والريح ، وأكثر الحركة ليشتد لحمه ويزول السمن المانع له من العدو .
قال بعض الصيادين : ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدى كأننى أرميه فلا
يطير وربما أهويت إلى الأرض كأنى أتناول شيئا فلا يتحرك فإذا مسست بيدى أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدى .
ومن علم اليربوع أن يحفر بيته فى سفح الوادى ، حيث يرتفع عن مجرى السيل ،
ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ، ويعمقه ثم يتخذ فى زواياه أبوابا عديدة
ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزا رقيقا فإذا أحس بالشر ، فتح بعضها بأيسر
شيء وخرج منه ، ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند صخرة أو شجرة ،
علامة له على البيت إذا ضل عنه.
ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلا الجرة فنقص وعز
عليها الوصول إليه ذهبت وحملت في أفواهها ماء وصبته في الجرة حتى يرتفع الزيت فتشربه
ومن هداية الحمار الذي هو من أبلد الحيوان أن الرجل يسير به ويأتي به منزله من
البعد في ليلة مظلمة فيعرف المنزل فإذا خلى جاء إليه ويفرق بين الصوت الذي
يستوقف به والصوت الذي يحث به على السير .
وهذا الثعلب إذا اشتد به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة
فتتداوله الطير فلا يظهر حركة ولا نفسا فلا تشك أنه ميت حتى إذا نقر بمنقاره وثب
عليها فضمها ضمة الموت .
ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة وتجعل في أعلاها خيطا
ثم تتعلق به فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها ومن علم الحمامة المرسلة منها إذا سافرت ليلا أن تستدل ببطون الأودية ومجاري
المياه والجبال ومهاب الريح ومطلع الشمس ومغربها فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلت
فإذا عرفت الطريق مرت كالريح .
النمل من أهدى الحيوانات وهدايتها من أعجب شيء فإن النملة الصغيرة تخرج من
بيتها وتطلب قوتها وإن بعدت عليها الطريق فإذا ظفرت به حملته وساقته فى
طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها
فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان .
*وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم *
( الأنعام : 38) [center]